محمد الغريب

تثار اسئلة كثيرة حول علاقة السينما بالفلسفة، والعكس، وليس هناك اجابات شافية، لهذا الجدل الذي لا ينتهي، أننا بصدد دراسات وابحاث حول السينما الفلسفية، او فلسفة السينما، وليس نظريات او اقترابات، حيث هناك حالة عدم نضج هذه العلاقة علي الاقل نظرياً، حيث الكتابات تحاول فك الشفرات، والاقتراب قليلاً من هذه العلاقة الشائكة، ولكن واقعيا في صناعة الافلام، سنجد العديد من المخرجين الكبار، يتجادلون مع الفلسفة، ويصنعون رؤي خاصة بهم، تدل علي مخرجين مفكرين، وفلاسفة عظام لديهم قدرة التعبير عن افكارهم الجادة بالصورة السينمائية.

تأتي العلاقة بين السينما والفلسفة علي اكثر من صعيد، منها تأثير السينما علي الفلسفة، وتفاعل الرؤي والافكار بينهما، وسنجد الكثير من ذلك في العديد من الافلام ذات الطابع الفلسفي، والتي قد يكون البعض منها له تأثير علي الفلسفة ذاتها، أو علي التفكير الانساني العادي، والنقد الفلسفي للسينما، بالإضافة إلي علاقة الخطاب الجمالي بالخطاب الفلسفي داخل السينما وأيضا المساحة الجمالية وعلاقتها بالسينما التجارية، وهو ما يستعرضه المقال.

علاقة السينما بالفلسفة

ساعد كثير من الافلام في تقديم رؤي فكرية حول عدد من المسائلات والجدليات الفلسفية، حتي اصبحت هناك افلام تساعد في فهم الخطاب الفلسفي وتعقيداته، علي أكثر من مستوي، وهو ما يستوجب تحليلاً باطنياً عميقاً. ويري الفيلسوف المعاصر ادغار موران أن السينما حالمة ومستيقظة في نفس الوقت وأنها تجمع بين الحلم والواقع. ورغم كونهما منبثقتين من عالمين مختلفين فإن السينما والفلسفة تتقاسمان لغة مشتركة داخل عالم محايد.

والسينما ليست انعكاسا حرفياً للواقع، فالمخيلة الابداعية السنيمائية، تعطي للمادة الفيلمية القدرة علي تخيل الواقع، وخلق عوامل فلسفية متعددة، وهي بذلك تخلق مساحات جديدة للتأمل الفلسفي والفكري، مثلها مثل الادب والفنون الأخرى، هي ايضا لديها مساحتها الجديدة بعيدا عن الواقع المفرط والمصمت.

pic 1
من فيلم “حصان تورينو” لبيلا تار

والتفكير بالصورة عبر السينما، مختلف عن التفكير الانساني العادي، او التفكير الفلسفي، وليس لأحد ميزة عن الأخر، انما هناك حالة اختلاف بينهم، فالأقلام ذات الطابع الفلسفي، اصبحت تقدم رؤي فكرية جديدة، وتعبر عن تفوق السينما احيانا علي الفلسفة، فالمخرج الروسي اندرية تاركوفسكي استطاع عن طريق المجاز الفلسفي والادبي والشعري أن يخلق مجاز سينمائي بصري رائع، في افلامه، وغيره من المخرجين الكبار مثل برجمان، وانطونيوني وأخرين.

النقد الفلسفي للسينما

الفلاسفة اللذين تناولوا السينما في موضوعاتهم، وجهوا نقدا للسينما، ومن ابرزهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وهي مدرسة فلسفية المانية، تسعي الي توجيه النقد الاجتماعي لكل الافكار التي تخص المجتمع والافراد، وكان النقد لهذه المدرسة حول ان السينما بها كثير من الصور والتخيلات البعيدة عن الواقع والحقيقة، فهي صورة مزيفة، وكان هذا النقد موجهاً بالأساس الي الافلام الدعائية والتجارية، فكان هناك تخوف من تحول السينما إلي صناعة استهلاكية لصالح جهات معينة تريد الترويج عن افكار محددة، وذلك تبتعد السينما عن رسائلها الفنية والاخلاقية والتوعوية.

وعلي محور أخر، وجه النقد للسينما بأنها غير قادرة علي التفكير والتفلسف بالصورة، وأنها غير ناضجة لهذه المهمة الجادة، وذلك لعدم الثقة في الصورة والحكاية علي خلق عالم تأملي وفكري، وأن اذا حاول الفيلم التفلسف، سيفقد كثير من جمالياته المتعددة، وذلك غير صحيح، حيث استطاع عدد من المخرجين الكبار مثل تاركوفسي وبرجمان وجودار، أن يترجموا افكارهم الفلسفية الي بصريات تأملية، صور سينمائية رائعة، فأصبحت السينما مصدر تفلسف، فمثلا المخرج الفرنسي جودار انتقد الفلسفة الوجودية، وتنبأ بانهيارها قبل ان تظهر مظاهرات مايو 1968 في فرنسا، وذلك خلال فيلمه “تعيش حياتها”.

pic 2
جان لوك جودار

اشكالية تجاوز السينمائي ما هو فلسفي

اما تجاوز السينما للخطاب الفلسفي، وليس النقد الفلسفي، هو تجاوز غير شامل، فمازال الابن السينما يحتاج الي الاب الروح الفلسفية، وذلك لأسباب عدة، أن التفلسف نفسه يأتي من كلمة فلسفة، فالخطاب الفلسفي السينمائي نفسه يخضع لعقلية مخرج متفلسف يملك الروح النقدية، والتأمل الفلسفي، وذلك يعتبر من روح الفلسفة، وايضا يستعين المخرج بالأفكار الفلسفية، علي اكثر من مستوي، بجانب الروح النقدية للافلام ذات الطابع الفكري تجاه الخطابات الفلسفية المتنوعةـ فالتجاوز هنا لا يقارن بالتجاوز في البصريات والافكار الخيالية وعالم الاحلام اكثر من التجاوز في الفكرة، حيث تصبح الذاتية اكثر هنا، رغم نظريات الجمال والفن في الفلسفة، الا ان اكثر فعل ذاتي يملكه الفيلم هو البصريات، والجماليات.

وايضا يتسم عالمنا الحالي بأنه عالم ما بعد حداثي بامتياز، وأن الاعلام والصورة تتحكم في حياة البشر، ففي الشكل العام للفلسفة لا تستطيع تجاوز هذه الشروط والسمات التي تغلف روح العالم، وذلك ينعكس علي تجاوزات السينما الفلسفية فيما يتعلق بالتفلسف، والواقع يتميز بالإفراط، ويشكل الانسان نفسه، الذي يصفه الفلاسفة بأنه مات امام الاشياء والعالم، وما تبقي منه سوف يفكر بالصورة ، التي تسيطر عليه.

وسيحتاج الانسان الي الخيال والاحلام، وهي سمات السينما الاساسية، فستكون المعالج الروحي له، خاصة الافلام ذات النزعة الجمالية الفكرية، او الافلام ذات الطابع التأملي والفلسفي، ليري نفسه المفكرة في الصورة، وفي الخيال، وليجد ذاته المفكرة هناك تناديه، وتنتظره بشغف، وترممه مرة أخري، حتي يصبح انسانا مرة أخري، فتفاعل الصورة الجمالية والبصريات مع الفكر سيجعل الذهنية المشهدية تعيد حساباتها مرة أخري بعد ان خسرت معركتها مع الاشياء والواقع والعقلانية.

الخطاب الجمالي والخطاب الفلسفي داخل السينما

بالنظر الي اعمال المخرجين الكبار، نجد ان المضمون الفلسفي للفيلم، صنع وحدات جديدة للجماليات، هناك تجزئة جمالية، خطابات متنوعة، وذلك يرفض بالضرورة مقولة أن الفكرة الفلسفية تفسد التلقي الجمالي للصورة، فالفكرة الفلسفية نفسها تصنع جماليات مضمرة في متاهة جديدة، فهناك ربط بين ما يحدث بين الصورة والفكرة داخل ذهن المشاهد، فالخطاب الجمالي يظل أسير وجوديته. فلدي جودار التواصل الذهني للفكرة الفلسفية تصنع جماليات تخص الفكرة الفلسفية، هو يناقش قرار الانسان وحريته والوجودية، فتجد ان التواصل حول الفكرة يصنع جمالاً خاصاً بهذه المناقشة الذهنية لدي المشاهد، وهذا التواصل ليس تمظهراً، انما هو مضمراً لدي اللقطة ولدي المشاهد.

وهناك عامل متعلق بالجماليات الذاتية للمخرج، فالنظرة الاخراجية شديدة الجمالية بالتمازج مع المضمون الفلسفي، تصل الي حدا ما بالكمال السينمائي، وهذا ما نجده لدي انطونيوني الذي جمع بين الجماليات والمضمون الفلسفي، وايضا لدي جارموش. اذا النظرة الجمالية لا تتنافي مع الفكرة الفلسفية.

من الممكن ان يتميز المخرج بذاتية فكرية عميقة، تولد خطاباً فلسفيا خاصا في الفيلم، وبذلك ليس هناك حاجة للقول بأن الفيلم طبق نظرية او فكرة فلسفية معينة موجودة، ونوع أخر من الافلام قد تأثرت بفلسفة ما، أو توجه أدبي أو قصص أدبية معينة.

الجماليات توجد كما سبق الاشارة بالتواصل والجدلية بين ذهنية المشاهد والفكرة الفلسفية، والعقلية الفلسفية الفيلمية المستقلة مثل لدي جارموش وانطونيوني وارنوفسكي تصل الي الجمالية الكلية، حيث الاستقلال الفلسفي للفيلم لا يعطي مساحات للتناقض في الجماليات او جدلية جمالية فلسفية متناقحة، تستلزم ارباك وتعقيد ما يستعدي خطابات الرغبة والغيرة والغربة.

المساحة الجمالية والاستهلاك السينمائي

المساحة الجمالية المستقلة وغير المستقلة للعقل الفيلمي الفلسفي تتميز بالتذوق النخبوي دائما، وانها خالية من التشويق وتسير في طريق الملل، وتبعد عن التأمل الشعبي، وهذا صحيح الي حد كبير، ولكن لا يعني ان هذه الافلام غير مؤهلة لعدد غفير من الجمهور العادي، الذي يتعين عليه التخلص من الميل السطحي والتجاري في الافلام العادية، التي لا يمكن مقارنة جماليتها بجماليات الافلام الفلسفية،

واذا تخلص المشاهد العادي من الفيلم الاستهلاكي ، ستستقل جماليته استقلالا جيدا، ويتجه في الحال الي الافلام ذات الطابع التأملي الفكري، التي تتضمن، دعوة الي التحرر الجمالي ودون وجود وصاية واداة هيمنة علي المتلقي، حيث يحصل المشاهد علي المتعة الجمالية بشكل مرهق ومجهد، وهذا المجهود يؤكد علي استقلالية الذائقة الجمالية واختلاف درجاته من مشاهد الي مشاهد أخر، حيث مساحات التأويل والتفسير تملئ المشهدية الفلسفية، مما يعطي مساحات حريات في التفسير والذائقة الجمالية.
French actress Maria Schneider with Italian director Michelangelo Antonioni at the Cannes Film Festival on May 22, 1975, where they are presenting their film “The Passenger” (profession: Reporter) in which Jack Nicholson plays the reporter. (AP Photo/CC)

أنطونيوني مع ماريا شنيدر في مهرجان كان

ويجب أن تكون أداة التفكير متوفرة لدي وعي المشاهد، وان تنتهي السلطوية السينمائية المتمثلة في الجانب التجاري للأفلام، التي تستبعد الذائقة الجمالية لدي المشاهد إلي اقصي درجة، وتكون المتعة السريعة هي الهدف، والاساس، وهنا تكون وظيفة الفنون هي الاستهلاك التجاري، والعبودية الجمالية للخيال والحسية البشرية، والحرية الجمالية مكلفة، ولكنها تستحق يبذل ورائها المشاهد كل جهده، حتي يحصل عليها، ليقول علي نفسه أنه يشاهد فناً وفيلماً سينمائياً ناضجا ورشيداً.

وبعد انا استعرضنا الخطاب الفلسفي والجمالي، وانقسام العقل الفلسفي الفيلمي الي مستقل جزئي، ومستقل شامل، نستعرض بعض شروط العمل الفلسفي الفيلمي: من خلال شرطين فنيين هما الصورة البطيئة والكادرات الواسعة.

العقل الفيلمي الفلسفي والصورة البطيئة

كلما زادت اللقطات البطيئة في الفيلم، يحدث التحرر الجمالي، بشكل طردي، حيث التحرر من سلطوية الزمن نفسه، يعطي تحررية ذاتية للمشاهد، وهذا يحدث تلقائياً، لان المشاهد يشعر أنه يعيش الحدث نفسه وأنه جزء من كينونة الزمنية الفيلمية، فليس هناك حاجز زمني بينه وبين الفيلم.

كما أن الصورة السريعة والتلاعب بالزمن من اجل التشويق لا يعطي فرصة للتفكير، ويصبح المشاهد يريد فقط اللهاث واللحاق بالفيلم والاحداث، وذلك، لزيادة مساحات الاحداث المتلاحقة والميل الدائم للشغف الجمالي السريع، حيث تتوغل الصورة السينمائية، داخل الفكر، دون مساحة للتفكير الذاتي، ويكون الفيلم علي رأس المشاهد، يشاهده في وقته المحدد، فالسيطرة الفيليمية تكون شاملة ليس فقط في الذائقة الجمالية، فهناك هيمنة علي الفكر، المساحة المحددة للمشاهدة، الخيال، الاحلام.

الصورة البطيئة تعطي كل الفرص والمساحات للمشاهد، حيث المكان يبقي كما هو، فتكون الرؤية واضحة وملمة بكل التفاصيل المكانية، فيتحرر استيعاب المشاهد لتفاصيل المكان في الفيلم، ويصبح الخيال والوعي الحلمي في اقصي نشوته، ويتأملها جمالياً بصرياً وخيالياً، وتزداد النشوة، كلما اصبحت التفاصيل فوق بعضها البعض، يعني وجود رمزيات في الصورة البطيئة المحملة بالتفاصيل الغير المتلاحقة، لتكون هناك عوالم جديدة ومتنوعة من عالم واحد في الفيلم، هذا التوليد يأتي فقط مع تحرر وعي وذائقة المشاهد في الصورة البطيئة.

عمق الكادرات

بالتوازي مع الصورة البطيئة، وتوقف الزمن، تأتي اهمية اللقطات ذات العمق الطويل التي تحتوي تفاصيل كثيرة من الاشياء وشخصيات الفيلم، وخاصة اللقطات التي تزداد اتساعا تدريجيا، وذلك اتساقا مع قدرة الفرد علي رؤية الاشياء وادراكها بصرياً، بمعني أن العين اذا دخلت حجرة ونظرت للتفاصيل، تزداد الاشياء ادراكاً مع مرور الوقت حتي تستوعب العين كل التفاصيل. وهذه اللقطات تؤثر ايضا علي حسية المشاهد، ويكون هناك فرصة للتأمل، واثارة البعد الفكري، بالاضافة الي الابعاد الجمالية الغير محدودة.

فمثلا المخرج المجري بيلاتار، استطاع أن يتلاعب بالاتساع التدريجي، في لقطاته الواسعة والمتوسطة، فالشخصيات والتفاصيل تزداد، وتكون في علاقات مراقبة او مشاهدة، او صدفة، او علاقات مكانية وزمانية، حتي تكتمل الصورة السينمائية في ذهنية المشاهد، وايضا لدي المخرج الفرنسي تريفو الذي تميز باللقطة المتوسطة، حيث يتابع المشاهد الحدث بحميمية، وتأتي اهمية الاتساع التدريجي بأنه عصب الكادرات الواسعة والمتوسطة، او بمعني اصح هو رمانة الميزان، فيتماشي مع مقاسات الكادرات الفلسفية بأنواعها.

بجانب تداخل الاتساع التدريجي في الكادرات الواسعة والمتوسطة، يأتي منطق وجود اللقطة القريبة ضمن هذه الكادرات الفلسفية، ليكون هناك تداخل بين ثلاثة انواع من الكادرات، حيث يحدث نوع من الهدوء والتخفيف الدرامي ويقلل من الارهاق البصري، ويعطي مساحات من التشويق للحدث، ولكن يجب أن تكون الكادرات الفلسفية في التداخل لها الاولوية، حيث مساحاتها اكثر في الفيلمية الفكرية.

خلاصة حول الجماليات والتفلسف الفيلمي

وبالنظر الي فكرة الفيلم الفلسفي المستقل الذي يعتمد علي ذاتية المخرج كما سبق شرحه، والذي يولد جماليات غير جزئية وكاملة، بعكس الفلسفية الفيلمية غير المستقلة، نجد أن فلسفة الكادرات الواسعة والصورة البطيئة تتحقق بشكل مريح دون اي عوائق، حيث يمازج المخرج بين ذاتيته الفكرية والجمالية الخاصة وبين التعامل مع الكاميرا، وتنخفض المساحات الفلسفية الخارجية، كما عند انطونيوني وبيلاتار وبعض افلام لارس فون تريير، وتاركوفسكي، فتكون الكاميرا هي المساحة الاكبر لتفكير المخرج، وتكون البصريات هي المكون الرئيسي لفلسفة الفيلم.

ويكون الامر مختلفا مع الافلام التي تركز علي الفكر الفلسفي اكثر من الحكاية بالصورة، حيث يميل الفيلم الي العنف البصري، بالمونتاج القاسي مثل بريسون وجودار، حيث تزداد مساحات الرقعة الفلسفية، وتكون الجماليات البصرية جزئية، ويكون استخدام الكادرات الواسعة والصورة البطيئة صعبا حيث تغلب السمة الفلسفية المباشرة، ومساحات الافكار الكثيفة، والمضغوطة في المشهدية، وتنسحب مساحات اللقطات الجمالية الفلسفية المتضمنة للكادرات الواسعة والاتساع التدريجي لصالح الفكر الفيلمي العميق، لتعتمد الجماليات علي تواصل الذهنية الفرجية لدي المشاهد والفكرة الفلسفية للفيلم بالأساس.

الأربعاء 18 فبراير 2015 19:28:00
نقلًا عن موقع “عين على السينما”

Comments are closed.