JAWS
1/10/1984
أعزائي المشاهدين…مساء الخير مرة أخرى…
وأهلًا ومرحبًا بكم مع أولى حلقات برنامج “نادي السينما” في هذه الدورة في فيلم مدته ساعتان ـ يحضره شخصياً “الفك المفترس” أو “بروس” كما كان يسميه الفنيون أثناء التصوير…وهو بالتأكيد أشهر و أغنى “فك مفترس” في العالم.
ففي 78 يومًا بالضبط وخلال فصل صيف عام 1975 حصد فيلم المخرج ستيفن سبيلبرج المأخوذ عن قصة شهيرة بنفس العنوان لبيتر بينشلي – حصد قرابة ال 125 مليون دولار، متفوقًا على سابقة “الأب الروحي” لكي يصبح أكثر الأفلام إيرادًا في تاريخ السينما، وهذا الرقم يمثل قيمة مبيعات التذاكر في دور السينما الأميركية وحدها. وخلال الأشهر التالية عرض الفيلم خارج أميركا فحصد أكثر من ربع بليون دولار، ولم يتفوق عليه من حيث الإيرادات إلّا “حرب النجوم” الذي حصد أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليون دولار، وحتى الآن ما يزال هو الأول، و”الفك المفترس” في المرتبة الثانية.
ولكن مع تأمل ما سنراه الآن قد ندرك أن “الفك المفترس” ليس فيلمًا بقدر ما هو ظاهرة خلقتها وسائل أخرى للاتصال.
وككثير من أفلام الشباك الناجحة فإن تلك القصة البسيطة لمطاردة سمكة قرش، تدين بشعبيتها إلى حملة تسويق كبرى بدأت حتى قبل كتابة الرواية، وهذه حكاية معروفة الآن في أوساط الصناعة السينمائية الأميركية.
فقد تقدم بيتر بينشلي المؤلف إلى إحدى دور النشر في يونيه عام 1971 بملخص للحكاية في أربع صفحات حول قرش قاتل، كان بينشلي كاتبًا محترفًا ولكنه لم يكن روائيًا، ودفع له الناشر 7500 دولار مقدمًا. ومن هذه النقطة بدأ العمل مع محرر آخر لتفصيل شكل يمكن بيعه، وفي نفس الوقت عمل المحرر مع قسم الدعاية لإنتاج سمعة تجارية للكتاب، تأثر بالدعاية المنتجان ريتشارد زانوك ودافيد براون، فاشتريا حقوق القصة للشاشة والكتاب لم يطبع بعد، وقامرا بأنهما يستطيعان إنتاج فيلم بسرعة تكفي لعرضه في أوج شهرة الكتاب، ولكن الإنتاج تأخر قليلًا وتكلف الفيلم ضعف ميزانيته المقررة، غير أن الحظ حالف المنتجين إذ أن الرواية ظلت بين قائمة أكثر الكتب مبيعًا لأكثر من المتوقع.
وكانت النتيجة لهذه العملية المدروسة هو جمهور معد بعناية عبر ثلاثة أعوام لاستقبال “الخبرة النهائية” “للفك المفترس” المتمثلة في “الفيلم المنتظر”، ومع ذلك فبالرغم من أن الدعاية المكثفة تضمن نجاحًا تجاريًا للأفلام (وهذا ما يفسر اتجاه هوليوود المتزايد إلى إنتاج أفلام مغامرات باهظة التكاليف مباعة مقدمًا لجمهور مهيأ)، ولكن الحقيقة أن الفيلم لن ينجح من تلقاء نفسه.
إن سر امتياز “الفك المفترس” في شباك التذاكر يعود في الأساس إلى إتقان حرفي مذهل…إلى تميز “الحرفة” وليس “الفن”.
وبالتأكيد فإن “الفك المفترس” كفيلم ينتمي إلى مدرسة التسلية، هو إنجاز تقني حرفي مذهل.
وكما يشرح هوبر (ريتشارد دريفوس) البساطة الأخاذة للسمكة بقوله: “إن كل ما تفعله هذه الماكينة هو أن تسبح وأن تأكل وأن تنجب أسماكًا صغيرة، وهذا هو كل ما هنالك!”
وأعتقد أن الفيلم يتمتع بنفس البساطة الأسرة أيضًا.
إنه خلاصة عمل آلاف المؤثرات (الخاصة وغيرها) التي تم اختبارها وتصنيعها لإنتاج استجابات مطلوبة ومحددة في نفوس المشاهدين.
وفي الواقع فإن “الفك المفترس” هو علامة أساسية فيما يمكن تسميته “الهندسة السينمائية الحديثة”.
ولهذا أيضًا هو عمل سينمائي ممتع.
أعزائي المشاهدين…
نستكمل حديثنا بعد أن نقضي وقتًا ممتعًا مع “الفك المفترس” ولنا لقاء بعده إن شاء الله.
شكراً لكم.
عرض الفيلم
مرحباً بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…
قبل أن نتأثر بمصير الصياد كوينت المأساوي، ونفرح بتفتت الوحش إلى قطع صغيرة، لنتذكر أن فن السينما هو فن الإيهام، فكوينت (روبرت شو) قد توفي وفاة طبيعية بعد تصوير الفيلم ببضعة أعوام، أما الوحش الذي شهدنا نهايته الطبيعية فما يزال حيًا يرزق في بركته الخاصة التي لا يشاركه فيها مخلوق آخر، والواقعة في قلب مدينة استوديوهات يونيفرسال فوق تلال هوليوود، يشاهده آلاف الزوار كل يوم فيما يمكن وصفه بأكبر حملة دعائية مستمرة لفيلم في التاريخ، قبل، وأثناء، وبعد إنتاجه وعرضه بأعوام وإلى ما شاء الله.
لقد أصبح “الفك المفترس” واحدًا من أبطال المدينة السينمائية الدائمين، واستطاع خبراء الدعاية في الماكينة السينمائية الأميركية العملاقة أن يحفظوا “ابتسامة” “الفك المفترس” من الضياع، وفي نفس الوقت يولدون سيلًا لا ينقطع من الدولارات كل يوم، فالجمهور يريد أن يشاهد الوهم على الشاشة وأصل الوهم في الواقع.
ولكنه أيضًا إنجاز تقني مذهل، كما ذكرت في مقدمة البرنامج، خلاصته أن “الفك المفترس” هو سمكة قرش مصنّعة بإحكام ومزوّدة بكمبيوتر مبرمج لإنتاج أكثر من 24 حركة، ويمكن تعديل البرمجة لتنتج حركات أكثر إذا دعت الحاجة.
ولكن الدجاجة لا تبيض ذهبًا طوال الوقت.
فالجزآن التاليان “للفك المفترس” الذي عرضناه الليلة، وآخرهما يستخدم تقنية الصورة المجسمة، لا يعدوان أن يكونا استثمارًا رخيصًا للنجاح الساحق للأول. وقد أدرك المخرج سبيلبرج بذكائه الفطري ضرورة أن يكتفي بإنجازه في الجزء الأول، والذي جعله فتى هوليوود الذهبي حقًا.
إننا إذن أمام شيء يشبه الفيلم الهوليودي الخالص، فهو لا يمثل وحسب خير تمثيل أعظم ما في تراث هوليوود كنتاج لمدرسة التسلية (وهي مدرسة مضادة لسينما التعبير الذاتي)، ولكن أيضًا كغيره من أفلام هوليوود الماضية الممتازة مثال لفكرة خلاصتها أن الفيلم هو ممارسة رياضة اتصال بين الشاشة والمشاهدين، فمشاهدته تجعل المرء واعيًا، على حد تعبير المخرج هوارد هوكس، “بأن ما يشاهده مادة جيدة وأنه من الصعب إنتاجها”.
لا يهم هنا ماذا تعني، ففي هذا النوع من الأفلام فإن السؤال الأساسي هو: هل تفعل فعلها في المشاهدين وهل تؤثر؟
وقد نجح “الفك المفترس” في ذلك.
كاتبا السيناريو اللذان عملا مع سبيلبرج بدءا بمزيد من تبسيط البناء المبسط أصلًا للرواية، فتم الاستغناء عن القصص الفرعية وحذف العديد من الشخصيات وعنصر الجنس، فلم يكن لشيء أن يتداخل مع “المؤثر” الأساسي: الإنسان في مواجهة الوحش، وبني السيناريو في ثلاثة فصول:
1. دع السمكة تكسب الجولتين الأولتين.
2. توقف ثم قم بتطوير دراما إنسانية.
3. اجعل الإنسان يعود لخوض صراع ملحمي.
الفصل الأول هو باختصار مساحة لتصعيد للتوتر، وواضح هنا أن سبيلبرج قد درس هتشكوك جيدًا، فالتوتر في معظمه لا يعتمد على حضور الوحش، ولكن على التهديد بحضوره، وفي هذا الفصل يمكن قراءة الفيلم مثل كتالوج من المفردات اللغوية السينمائية للمعلم هتشكوك.
وخير مثال لذلك هو اليوم الأول على الشاطئ بعد أن أعلن القرش عن وجوده (ولعل هذا هو أفضل فصول الفيلم) حيث نرى برودي (روي شايدر) يرقب في قلق المصطافين وهم يلهون فوق الأمواج، لقد أراد إغلاق الشواطئ ولكن العمدة رفض ذلك. كل شيء هادئ الآن… لقطة لسيدة بدينة، لقطة لصبي يلهو فوق الطوف مع كلبه، لقطة لأم وأطفالها، ثم تقترب اللقطات أكثر فأكثر، ويستخدم سبيلبرج العدسة الطويلة لكي يغبش الخلفية ويركز على وجه برودي ليزيد من إحساسنا بالضيق المكاني في كل لقطة، ويتواتر الإيقاع، لقطات لشايدر يحملق في الماء بينما تحول بينه وبين الماء (أو الكاميرا) شخصية أخرى مارة تكثف من شعورنا بفقد الاتجاه، ثم يعقب ذلك مرحلة مخطط لها بعناية من الإنذارات الكاذبة: جسم أسود في الماء، هل هو القرش؟ “لا” إنه امرأة تغطي رأسها بكاب أسود تنبثق من بين الأمواج، صرخة “لا” إنهما مراهقان يلهوان، وأخيراً يأتي الهجوم، وبطريقة هتشكوكية محكمة الصنع لا نرى الهجوم نفسه بقدر ما نرى تأثيره على وجه شايدر.
وإذا تغاضينا عن الفصل الثاني حيث يدور الصراع بين رجال الأعمال الجشعين وبين البطل حول إغلاق الشواطئ، فإن الفصل الثالث يمثل قلب الفيلم:
شايدر وشو ودريفوس وحيدون في فضاء بحري فوق قارب صيد قديم، خرجوا لمبارزة “القرش الأبيض الكبير” وهنا أيضًا يتولد الشعور بالتوتر من الإحساس بوجود الوحش بأكثر مما يتولد من حضوره.
وقد استغرق تصوير هذا الفصل أكثر من ثلاثة أشهر، وتسبب في مضاعفة ميزانية الفيلم، فأحياناً كان “بروس” (القرش القاتل) يثير المتاعب بعطل في الكمبيوتر، وفي حين آخر غرقت مركب الصيد أوركا واضطروا إلى تصنيع مركب بديلة، وكانت هناك ظروف البحر أيضًا.
ولكن البطل الحقيقي ـ بعد القرش القاتل بالطبع ـ هي المونتيرة فيرنا فيلدز، فقد قامت بمونتاج “الفك المفترس” بأستاذية واضحة، وفي الواقع أن إيقاع الفيلم وليس موضوعه هو ما أسهم في توليد الأثر المطلوب في نفوس المشاهدين.
ومع ذلك فقد يكون صحيحًا ما ذهب إليه بعض النقاد من أن “الفك المفترس” هو فيلم أطفال مثله مثل غالبية أفلام ستيفن سبيلبرج.
ربما؟!
فقد قدمت لكم من قبل سبيلبرج في فيلمين: “مبارزة” عن صراع الشاحنة التي تشبه فكًا بريًا آليًا مفترسًا، والسيارة الصغيرة التي تبدو في براءة الأطفال السابحين في فيلم الليلة، ثم قدمته في فيلمه “شوجر لاند اكسبريس” عن امرأة تقاتل الجميع لكي تسترد طفلها.
بعد “الفك المفترس” قدم سبيلبرج أفلامًا أخرى أشهرها “لقاءات قريبة من النوع الثالث” عن لقاء طفل مع عالم الأطباق الطائرة، ثم “E.T” عن لقاء قريب جدًا هذه المرة بين طفل وزائر فضائي هو طفل آخر، وأنتج “بولتر جايست” عن محنة أطفال وأرواح شريرة، وهو يفكر الآن في إنتاج فيلم عن قصة جيمس باري الشهيرة “بيتر بان”. ومدخل سبيلبرج إلى الأفلام يشبه بيتر بان نفسه، فهو يبدو رافضًا أن يكبر في أفلامه، وتركيزه ما يزال متجهًا إلى أفلام تخاطب الطفل في أعماق كل منا، قال سبيلبرج في مؤتمر صحفي عقد مؤخرًا:
“إن الأطفال هم انعكاس للطريقة التي أرى بها الحياة، وغالبًا ما أتخذ موقفي كمخرج من خلال عيون الأطفال، إن هذه النظرة تزيل الكثير من الغث، عندها تصل إلى نقاء وجهة نظر الطفل، إنني أحب إشراك الأطفال في أفلامي لهذا السبب، وحتى أبني جسرًا بين عالم الكبار وعالم الأطفال”.
ربما كان سبيلبرج على حق؟
ربما!
•
أعزائي المشاهدين…
لقاؤنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله سيكون مع فيلم ستانلي كريمر “بارك الوحوش والأطفال” الذي يقدم فيه رؤية مغايرة تمامًا لسبيلبرج، ومن داخل مدرسة سينمائية أميركية أيضاً مختلفة تمامًا عن سينما التسلية التي شاهدنا الليلة نموذجًا ممتازًا منها.
بعقب عرض الفيلم الأميركي الفيلم الكويتي الروائي القصير “القرار” من إخراج عامر الزهير.
•
إلى أن نلتقي على خير مساء الاثنين المقبل… أرجو لكم وقتًا طيبًا.
شكرًا لكم وإلى اللقاء وتصبحوا على خير.