Death on the Nile

موت على النيل

3/12/1984

أعزائي المشاهدين…مساء الخير…

أحييكم أطيب تحية وأرحب بكم مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما”، أقدم لكم فيها فيلمًا بريطانيًا مدته ساعتان وثلث تقريبًا، هو النسخة السينمائية قبل الأخيرة من أعمال كاتبة الأدب البوليسي الشعبي البريطانية المعروفة أجاثا كريستي…فيلم جون جيلرمين “موت على النيل” الذي أنتج في عام 1978.

النسخة الأخيرة ظهرت في عام 1982 بعنوان “شر تحت الشمس”، وقبلها كان فيلم سيدني ليوميت “جريمة قتل في قطار الشرق السريع” في عام 1974، ويبدو أن جماهير المشاهدين عبر العالم تواقة لمثل هذا النوع من أفلام التسلية لدرجة أنه من غير المهم أحيانًا أن يكون الفيلم جيدًا.

ولكني أطمئنكم بأن فيلم الليلة وهو أيضًا “شر على النيل” يعتبر أفضل إنتاج سينمائي لعمل من أعمال كريستي، كما سنرى فيما بعد.

لنتعرف أولا على الكاتبة أجاثا كريستي التي ولدت في عام 1890 وتوفيت في عام 1976. كاتبة روايات بوليسية وكاتبة مسرح، ويمكن أن نعلل نجاح معظم أعمالها المسرحية إلى كونها مأخوذة عن روايات لها وأبرزها “عذر قضائي” (1928) المأخوذة عن روايتها “قتل روجر أكرويد” ومسرحية “حب الغريب” (1936) عن قصتها القصيرة “عشرة زنوج صغار” (ونشرتها في الولايات المتحدة بعنوان “عشرة هنود صغار” في عام 1943)، ثم “موعد مع الموت” (1945)، و”جريمة قتل في الكنيسة” في عام (1950). وأشهر هذه الأعمال هي “مصيدة الفأر” المأخوذة عن قصتها القصيرة “ثلاثة فئران عمياء” التي تمثل على المسرح في لندن بشكل متواصل منذ عام 1952 وحتى الآن ضاربة الرقم القياسي في تاريخ المسرح.

وقد أنتج فيلم قبل بضعة أعوام عن فترة اختفائها الغامض في الثلاثينات من تمثيل فانيسا ردجريف.

عالم أجاثا كريستي والأفلام التي تصوره تنتمي إلى عالم الجريمة، وسواء سمينا هذا النوع من الأفلام أفلام الألغاز أو الإثارة أو الجريمة والعقاب بما في ذلك تفريعات هذا النوع مثل أفلام العصابات أو المفتشين الخصوصيين أو الجاسوسية أو الأفلام البوليسية ـ فهي في النهاية حديث عن نوع واحد: نوع من الأفلام يتميز بمكونات معينة وله معايير خاصة للامتياز.

أولًا: لابد للفيلم البوليسي الممتاز أن يكون مسليًا، فلا شيء يفسد هذا النوع من الأفلام مثل فيلم إثارة خال من الإثارة، أو فيلم جريمة وعقاب حيث تكون الجريمة فيه عادية والعقاب ضعيفًا. على هذه الأفلام أن تحركنا بقوة ودون شعور بالندم وعليها أن تتحكم في انتباه المشاهدين طوال الوقت. لا يهم هنا تبليغ رسالة كبرى (إلّا إذا أراد صانعها ذلك). الأهم هو أن يضع في اعتباره أن ينتج فيلمًا مسليًا في المقام الأول.

ثانيًا: لابد للفيلم البوليسي الممتاز أن يكون معقدًا فلا محل للبساطة هنا، كلما تعقدت الحبكة والحبكات الفرعية كان الفيلم أفضل، فغالبًا ما يكون الفيلم مزدحمًا بحبكة بخيوط العنكبوت وبحبكات ثنائية وثلاثية، وأحيانًا تبلغ درجة تعقيده إلى حد أن يصبح من المستحيل اختراق الحبكات الفرعية لمعرفة الدوافع. لا يهم ذلك لأن التعقيد في هذا النوع مطلوب لذاته. إن هذا النوع من الأفلام يصنع للاعبي الشطرنج وهواة حل المعضلات الذين قد يشاهدون الفيلم مرتين وثلاثًا إذا دعت الحاجة لسبر أغوار المنطق الجهنمي الداخلي الذي يحكم القصة.

ثالثًا: لابد للفيلم البوليسي الممتاز أن يتمتع بقوة بصرية عالية، فكل لقطة لابد أن تضيف شيئًا وأن تكون مبهرة للعينين، لابد لكل لقطة أن تحرك الشخصية والقصة إلى الأمام.

إن معظم أفلام كبار مخرجي هذا النوع مثل هيتشكوك وريد ولانج وويلز وهوكس وسيجل وهيوستن ووالش ـ هي أفلام تتميز بقوة بصرية مميزة.

رابعًا: غالبًا ما تدور أحداث الفيلم البوليسي الممتاز في أحياء خاصة من المدن، وغالباً ما تسمى هذه الأفلام “الأفلام السوداء” لأن قصصها تدور في معظم الأحيان في مدينة الليل، في الحانات، وفي الشوارع الخلفية التي يتوارى فيها المتشردون والمعتدون والمقامرون والمخبرون الخصوصيون. إن عالم مدينة الليل هو عالم يتخطى حدود الخير والشر في ابتعاده عن القيم التقليدية للطبقة المتوسطة.

وإذا كانت الأفلام المأخوذة عن أعمال كريستي تلتقي مع النقاط الثلاثة الأولى في مواصفات الفيلم البوليسي الناجح (وهي التسلية ـ والتعقيد ـ وأحيانًا الفن) إلّا أنها بالتأكيد تخالف الصفة الرابعة وهي عالم الليل في الأحياء المنحطة والشخصيات القذرة.

عالم كريستي عالم فيه مسحة أصلية من الأرستقراطية وتذكرني بعبارة اللورد مؤلف الرواية البوليسية في فيلم “سلوث” (أو “مخبر سري”) الذي عرضناه في البرنامج وقام بالدور اللورد لورانس أوليفيه قال: “أن الروايات البوليسية هي تسلية العقول النبيلة” في إشارة واضحة إلى الطبقة التي تتغذى بهذا النوع من الأدب، لهذا سنجد في أفلام أجاثا كريستي العناصر المكونة لعالم رواياتها بالكامل، الناس الشيك و… حتى الجريمة الشيك.

عالم من الشخصيات الأرستقراطية الهادئة التي تظل تدور وتدور في فراغها القاتل بحثاً عن القاتل…وعن….من فعلها؟

لنقض الآن وقتًا ليس مقتولًا مع فيلم جيد ومع دسته شخصيات شيك فوق مركب نيلية في مصر في الثلاثينات، ولنتسلى بمحاولة اكتشاف…من فعلها؟

ولنا لقاء بعد الفيلم إن شاء الله.

شكرًا لكم.

عرض الفيلم

مرحبًا بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…وأرجو أن يكون الفيلم قد أثار اهتمامكم.

لعلنا لاحظنا أن شخصيات أجاثا كريستي هي شخصيات محصورة في مكان محدد. رأينا ذلك في “جريمة قتل في قطار الشرق السريع” وفي فيلم الليلة وفي “شر تحت الشمس” أيضًا (الذي سنحاول عرضه قريبًا). بالإضافة إلى هذه الوحدة المكانية هناك وحدة زمنية إذ أن الأحداث تدور في زمن أيام. لاحظنا أيضًا أن العقدة بمضي الوقت تزداد كثافة خاصة وأن كل شخصية من شخصياتها لها دافع واضح أو مستتر للقتل.

الخيط الثابت هو شخصية المفتش التي رسمتها كريستي…شخصية إيركيل بوارو (الذي قام بدوره هنا وفي “شر تحت الشمس” بامتياز الممثل بيتر يوستينوف) على نمط شخصية كاتب الروايات البوليسية آرثر كونان دويل ـ شخصية شرلوك هولمز ـ أو شخصية الكاتب ريموند تشاندلر ـ المحقق فيليب مارلو…المفتش هو الخيط الثابت الذي يجمع كافة خيوط العقدة ويرتبها صوب الحل.

لعلنا لاحظنا أيضًا أن مصر تستخدم فقط كخلفية سياحية للأحداث دون دور معين على الإطلاق، بل لعلنا لاحظنا أن أجاثا التي تكتب لتغذية العقول النبيلة، والتي عاشت عصر الاستعمار في أوجه، تعتبر هذه البلاد خالية إلّا من حشود المتفرجين والحمالين، وهذه نظرة غير مستغربة على الإطلاق.

عودة إلى التنفيذ الفني للفيلم سنجد أن الصعوبة الكبرى أمام كاتب السيناريو في مثل هذه الأفلام هي بالضبط سر تميّزها، الوحدة المكانية والزمانية.

فالفيلم البوليسي يسلّي ويثير ولابد أن تكون هناك أحداث، وهذا هو التحدي الذي واجهه كاتب السيناريو الكاتب المسرحي أنتوني شافر (الذي كتب مسرحية وسيناريو الفيلم الممتاز “سلوث” (أو “مخبر سري”). وهذا النوع من السيناريوهات يسمى “سيناريو الغرفة” وهو شكل إما أن ينجح الكاتب فيه تمامًا أو يفشل تمامًا، ومقياس النجاح هو خلق أحداث من خلال الحوار…أحداث صغيرة طبيعية غير مفتعلة تحقق بناءها الخاص في سياق الأحداث الكبرى مثل جرائم القتل.

هناك أيضًا تصوير ممتاز لجاك كارديف أسهم في خلق أجواء الثلاثينيات، وهناك موسيقى نينو روتا (مؤلف موسيقى أفلام فيلليني) والتي أسهمت في تحقيق نوع من الاتزان الإيقاعي للفيلم المناسب لأجواء كريستي على عكس الأفلام البوليسية العادية بموسيقاها الزاعقة بهدف الإثارة.

أما يوستينوف فسأوجل الحديث عنه لحين تقديم دوريه في فيلمين قريبًا إن شاء الله: “سبارتاكوس” و”توبكابي”.

الأسبوع المقبل

لقاؤنا الأسبوع المقبل إن شاء الله سيكون مع فيلم مايكل سيمنو الممتاز والمثير للجدل حول فيتنام في السينما الأميركية “صائد الغزلان” من تمثيل روبرت دي نيرو وكريستوفر والكن.

إلى أن نلتقي مساء الاثنين المقبل إن شاء الله أرجو لكم وقتًا ممتعًا ومفيدًا.

شكرًا لكم وإلى اللقاء وتصبحون على خير.

Comments are closed.