“وداعاً بونابرت”
Adieu Bonaparte
9/12/1985

أعزائي المشاهدين…مساء الخير…
أحييكم أطيب تحية وأرحب بكم مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما” أقدم لكم فيها أحدث أفلام المخرج العربي يوسف شاهين، والذي عرض عالميًا لأول مرة قبل ستة أشهر ضمن برنامج المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي الدولي في مايو الماضي. الإنتاج المصري الفرنسي المشترك “وداعًا بونابرت” ومدته حوالي مائة دقيقة.
أتصور أنه من الصعب على مشاهد “نادي السينما” الدؤوب أن يتذكر التقديم والتعليق المسهب لحوالي 35 دقيقة على عرض فيلم شاهين الممتاز “باب الحديد” (1958). ومع ذلك فمن الصعب هنا أن أعود مرة أخرى إلى تقديم شاهين والذي قدمته مرة ثانية مع “حدوتة مصرية” في العام الماضي.
فيلم “بونابرت” فيلم مثير للجدل على الأقل في داخل الدولتين المشاركتين في الإنتاج.
وإثارة الجدل مسألة مطلوبة إلى أبعد الحدود، ولهذا السبب أقدم الفيلم في البرنامج كما قدمت أفلامًا أخرى رغم أنني قد أكون متخذًا “لموقف” يلتقي مع هذا أو ذاك الفريق. ورغم أن الجدل قد تركز حول “أفكار” الفيلم إلّا أن ثمة رأيًا آخر قد يجعل المناقشة حول “الأفكار” تحل في المرتبة الثانية من الأهمية… وهو رأي سأعرضه في سياق التعليق عقب الفيلم إن شاء الله.
ما إن عرض “بونابرت” في كان حتى قيل إن عمدة مدينة كان مدام دوبري قد رفضت مجرد مشاهدته بإدعاء أنه فيلم “مضاد لفرنسا”.
الصحافة اليمينية الفرنسية نفخت في النار قائلة إنه لم يكن هناك داع للمشاركة في تمويله بأموال فرنسية وخاصة أموال الحكومة الاشتراكية. نقاد اليسار قالوا إن الفيلم “يميع” رسالته غير الواضحة أصلًا لإرضاء النزعة الاستعمارية. النقاد المصريون يتهمون الفيلم بأنه قد سعى لإرضاء الفرنسيين على حساب تاريخ النضال المصري ضد الغزو النابليوني في عام 1798.
وفي إطار الجدال المحتدم استشهد كاتب مثل ألين كوبيك بعبارة لشرطي فرنسي قالها عقب عرض الفيلم في كان:
“إن هناك ثلاثة أعلام لا ينبغي المساس بها في فرنسا: “إديث بياف، وديجول، وبونابرت”!
تبدأ أحداث فيلم الليلة في الثاني من يوليو عام 1798 مع نزول قوات نابليون الغازية إلى شواطئ الإسكندرية، وتستمر من خلال عين أسرة مصرية لنحو عام وبالتحديد في السابع والعشرين من أبريل عام 1799 بوفاة الجنرال كافاريلي أحد مهندسي الحملة وبطل الفيلم.
بقيت لنا بضع أسئلة نجيب عليها قبل أن نشاهد الفيلم؟
من هو كافاريلي؟
إنه عالم ومهندس عسكري.
فعندما كان نابليون يعد للحملة المصرية استدعى كافاريلي وعينه بريجادير جنرال مسئولًا عن سلاح المهندسين. ومنذ بداية الحملة والجنرال يقدم إسهاماته في نجاح القوات الفرنسية الغازية، وأحبه الجيش وأعتاد الجنود منظر ساقه الخشبية (فقد ساقه في معركة على ضفاف نهر ناه قبل الحملة المصرية بنحو ثلاثة أعوام). وكان المصريين يطلقون عليه لقب “أبو خشبة”، وحين كانت تنهار معنويات جنود الحملة الفرنسيين يشيرون إليه قائلين:
“أنظروا إليه…لا يهمه أن يكون هنا، فمازالت له قدم أخرى في فرنسا”. وعندما مات في حصار عكا رثاه نابليون بقوله: “لقد فقد الجيش واحدًا من أشجع قواده، ومصر واحدًا من أكبر واضعي القانون فيها، وفرنسا واحداً من أفضل مواطنيها، والعلم رجلًا قدم إسهامات عديدة وبارزة”.
وأمر نابليون بحفر اسمه من البرونز في قصر فرساي.
كافاريلي مهندس الحملة العسكرية وقائد الحملة العلمية ـ في رأي شاهين ـ والتي ضمت نحو 167 عالمًا وفنانًا، يلعب دوره الممثل الفرنسي ميشيل بيكولي.
السؤال الثاني.
من هو السيد محمد كريم حاكم الإسكندرية الذي يلعب دوره سيف الدين؟
تزّعم حركة المقاومة قبل نزول الفرنسيين إلى الإسكندرية، فنُفي وحكم عليه بالإعدام، وقطع رأسه وسير بها في الشوارع لإرهاب المقاومين.
السؤال الثالث.
ما الذي يريده يوسف شاهين من الأفلام؟
“أسعى في كل فيلم من أفلامي إلى إنتاج تعليق سياسي، والتعليق السياسي إذا ما صدر في الوقت المناسب تكون له قيمته، والذي أردت قوله هنا في نابليون…ـ أردت أن أسأل ـ ما هي الأرضية المناسبة للقاء من أجل “الحوار”. إذا لم نتحاور على أساس متكافئ، وإذا هددتني فلن يكون هناك حوار، إن نابليون لم يأت إلى مصر من أجل الحوار، لم يأت لكي ينقذنا كما تدعي بذلك مراجع التاريخ الفرنسية، لقد أتى ليغزو”.
هذه ثلاثة أسئلة وإجابات من بين بضع أسئلة وإجابات أخرى أرجئها إلى ما بعد أن تشاهدوا الفيلم الذي يعتبر بالمقاييس الإنتاجية فيلمًا مكلّفًا باذخًا؛ ميزانية الفيلم 24 مليون فرنك فرنسي، أو ما يساوي 2.7 مليون دولار.
ولنر الآن كيف يظهر ذلك على الشاشة.
أعزائي المشاهدين وقتًا مفيدًا أرجوه لكم مع “بونابرت” ولنا لقاء بعد الفيلم إن شاء الله.
Film: Adieu Bonaparte

مرحباً بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…
في تعريفه لدوره تحدث مؤخرًا يوسف شاهين قائلًا: “إن وظيفتي كمخرج هي أن أزعجك! ليس مقترحًا أن تخرج من باب السينما مسرورًا بمشاهدة النساء الجميلات. إنني أستخدم السينما كوسيط لنقل الحقائق كما أراها، فإذا أزعجتك هذه الحقائق ـ فهذا شيء جيد”.
كلام جميل، وأجمل منه كلام شاهين الذي أوردته في المقدمة عن الغزو النابليوني وعن الحوار بين “الحضارات”.
ولكن الفارق بين الكلام والفعل في السينما هو “الصورة” ناقلة الكلام إلى فعل سينمائي ـ هو “الفيلم”.
فإذا لم أحس بذلك في كل لقطة من لقطات الفيلم فإن الفيلم يكون بذلك قد أخفق في نقل رسالته إلى مشاهديه المفترضين.
وقبل مناقشة الفيلم في حدود الوقت فإن أولى “الحقائق المزعجة” حول أفلام شاهين نفسها هي أنه من بين ثمانية وعشرين فيلمًا طويلًا أخرجها منذ عام 1950 وحتى الآن فإنه لا يوجد أكثر من عشرة يمكن أن تفتح مناقشة حول التعليق السياسي، والباقي ثمانية عشر فيلمًا كلها أفلام تجارية عادية حافلة بالنساء الجميلات!
يلاحظ ثانيًا أن أهم أفلام شاهين مثل “باب الحديد” و”الأرض” هي أفلام لم يكتبها وبالتالي فإن التعليق السياسي لم يكن له وإن تعاطف معه.
وفي الفترة التي كتب فيها تعليقاته السياسية انفصل “القول” كلية عن “الفعل”، وفي هذه الحالة انفصلت أحاديثه المستفيضة حول التعليق السياسي في أفلامه عما نراه فعلًا على الشاشة من عرض مشوش وأنفاس لاهثة وصياح لا مجد وزعيق متواصل ومونتاج غير مشبع ورسالة غير واضحة بالمرة!
وفوق هذا وذاك إنتاج سينمائي شديد التواضع يصل في “نابليون” إلى حدود السذاجة!
إن السينما في الأساس هي صناعة أفلام، هي خلق إيهام ونقل حقائق ولكن على أساس ضروري من الفن والإمتاع.
والإمتاع هنا لا يعني أن الفيلم عامر “بالنساء الجميلات” ولكنه الإمتاع الفني ـ بغض النظر عن الموضوع ـ الذي يؤدي إلى رفع مستوى تذوق المشاهد للمادة البصرية المعروضة عليه ويسهم في تقدم الفن السينمائي، والفن في النهاية هو محاولة لرفع الحياة على الشاشة من رثاثتها في الواقع.
إن حديث أي مخرج عما كان يريد قوله في فيلمه معناه ببساطة أن رسالته لم تصل.
وفي حالة شاهين لا تصل رسالته خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية تقريبًا، لأن رسالته غير واضحة عنده أولًا، ولأن ما تبقى منها يندس في أفلام سيئة الصنع، ولا يعني هذا إطلاقًا أن شاهين مخرج غير محترف، ولكنه يعني أن تركيب مكونات فيلمه تخونه في كثير من الأحيان.
فبلاغة السينما منذ تسعين عامًا وحتى الآن وحدها هي بلاغة الصورة، ولم تكن أبدًا ما يقوله هذا المخرج أو ذاك.
كيف رأيتم كافاريلي الذي قدمته قبيل عرض الفيلم؟
عالم ومهندس جليل أم رجل مهموم بإشباع رغباته الخاصة أصابته عدوى الصراخ الشاهينية؟
وكيف أقيم معه حوارًا بالمنطق الشاهيني ـ على نحو ما فعل علي ويحيي (مخالفًا بذلك كل كتب التاريخ المصرية والفرنسية) في الوقت الذي جاء فيه إلينا “غازيًا” هو الآخر كمهندس لجيش نابليون؟
أرأيتم كيف قدم شاهين السيد محمد كريم؟
نحن لم نشاهد سوى سيف الدين يرطن بكلمات غير مفهومة وعلى رأسه عمامة مضحكة ويلف بعصبية من هنا إلى هناك؟
هل هذا كل ما فعله المصريون وقادتهم لمقاومة الغزو؟
ألم يجد شاهين سوى علي عاشق الأجنبيات والمعجب بالفرنسيين لكي “يقود” الحوار؟
ألم يجد سوى أسرة فارة من الإسكندرية بعد الغزو إلى القاهرة لكي تعود من جديد، ورب هذه الأسرة يبرر تعاونه مع الاحتلال بقوله “الأيد البطالة نجسه”!
هل هذه المقاومة الطفولية الشعاراتية هي تجسيد لثورات القاهرة الأولى والثانية وما بينهما؟
وهل تكفي السخرية من نابليون لكي تبيض صفحة كافاريلي؟
وأسئلة أخرى وغيرها كثير تعكس جميعها ما يمكن أن يوصف بالحالة الشاهينية ـ سينما عصبية خالية من كثير من السينما ـ محشوة بالكلام عالي الصوت.
وأصبح الآن كل ما نأمل به هو أن نشاهد شاهين مرة أخرى في عمل مازلنا ننتظره لكي يعود إلينا مرة أخرى بمستوى فيلمه البعيد… “الأرض”.
Next week

لقاؤنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله سيكون مع الإنتاج الفرنسي البريطاني؛ فيلم جاك جولد “لمسة ميدوزا” من تمثيل ريتشارد بيرتون ولي ريميك ولينو فينتورا.
إلى أن نلتقي مساء الاثنين المقبل إن شاء الله، أرجو لكم أوقاتًا طيبة ومفيدة وممتعة.
شكراً لكم وإلى اللقاء…وتصبحون على خير.

الفاروق عبد العزيز

Comments are closed.