“وقائع سنين الجمر”
29/10/1984
Chronicle of the Years of the Blaze

أعزائي المشاهدين … مساء الخير…
أحييكم أطيب تحية وأرحب بكم مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما” الذي نلتقي فيه لأول مرة بالسينما الجزائرية مع فيلم جزائري عالمي هو “وقائع سنين الجمر” للمخرج محمد الأخضر حامينا، ومدته مائة وسبعون دقيقة تقريبًا، وهذه – كما تذكرون – ليست المرة الأولى التي يقدم فيها البرنامج أفلامًا عربية وأخرى من سينمات مختلفة غير منتشرة عالميًا كالسينما الأميركية، ولعلها فرصة حقيقية للتعرف على مدارس جديدة وعلى عوالم مجهولة لدينا على الشاشة.
عندما نودي على المخرج محمد الأخضر حامينا للصعود إلى مسرح القاعة الكبرى بقصر المهرجانات في ختام مهرجان كان السينمائي في عام 1975 ليتسلم الجائزة الذهبية الكبرى للمهرجان تداعت على الفور أفكار وصور.
ففيلم “وقائع سنين الجمر” هو أول فيلم عربي يفوز بجائزة بهذا المستوى في مهرجان بهذا المستوى، كما أن حصول حامينا على الجائزة هو في الواقع بمثابة تكريم لما عرف “بالمعجزة السينمائية الجزائرية”.
فقد ولدت السينما الجزائرية فعليًا منذ عشرين عامًا فقط (وهي فترة زمنية قليلة فعلًا في حياة أي سينما) أعني هنا سينما الإنتاج المنتظم، بالطبع قبل ذلك ولدت في خضم الكفاح المسلح، ففي عام 1975 أنشأ السينمائي الفرنسي المناضل رينيه فوتييه مدرسة التكوين السينمائي لتدريب كوادر فنية، وكان فوتييه يقاتل في صفوف الثوار ضد المستعمرين من مواطنيه. وحتى عام 1962 – عام الاستقلال – أثمرت هذه المرحلة ثلاثة عشر فيلمًا قصيرًا شارك في إخراج أربعة منها مخرج مقاتل جديد اسمه محمد الأخضر حامينا الذي نقدم فيلمه الليلة والذي يعتبر فعليًا أول مخرج جزائري.
بعد الاستقلال أنشئ في عام 1967 الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينمائية، ليتولى الإنتاج والتوزيع، وفي خلال عشرين عاماً أثمرت السينما الجزائرية نحو ثمانين فيلماً طويلاً وثلاثمائة فيلم قصير.
وفي مجال ذكر الأرقام فإنه توجد بالجزائر 470 دارًا للعرض السينمائي، وهو بالتأكيد أكبر عدد لدور العرض في العالم العربي، ومن أكبرها في العالم الثالث، هذا بالإضافة إلى دور “الفن والتجربة” ووحدات السينما الجماهيرية المتنقلة التي لا يقل عددها عن مائة دار ووحدة.
أما نوادي السينما فهي أكبر أندية العالم الثالث وبعض البلدان الأوروبية ويصل عددها إلى أربعمائة ناد، وبالجزائر أيضًا ثاني أكبر مكتبة للأفلام في العالم بعد السينماتيك الفرنسي ـ وهي مكتبة وأرشيف الأفلام في العاصمة وفروعها الثلاثة في مدن أخرى.
تجربة سينمائية شديدة الثراء تلقى دعمًا رسميًا غير محدود، تحفل باتجاهات عديدة يديرها شباب دارسون، وسينما حيوية تعتمد سياسة الكيف قبل الكم والنوع قبل العدد، ولها تجربة مثيرة في أفلام الإنتاج المشترك.
فالعالم كله قد عرف السينما السياسية في الستينيات من خلال فيلمين مولتهما الجزائر وشارك فيهما فنانون وفنيون جزائريون: الأول هو “معركة الجزائر” الذي شارك في كتابة السيناريو له فرانكو سوليناس الذي قدمته مع مخرجه جيلو بونتكيورفو عندما قدمت فيلمهما الهام “كيمادا أو أحرق” منذ فترة.
في عام 1966 حقق الفيلم دويًا عالميًا ولفت الأنظار لمعركة الشعب الجزائري وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان في عام 1969، وأوسكار أحسن فيلم أجنبي في عام 1970. هناك أيضًا “الغريب” للمخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي وهو معالجة ممتازة لقصة ألبير كامي الشهيرة، وهناك “إيليز أو الحياة الحقيقية” للفرنسي ميشيل دراش عن قصة حب شبه مستحيلة بين فتاة فرنسية وعامل جزائري، وفاز بجائزة لوي ديلوك في عام 1971.
وهناك من الإنتاج العربي فيلمان مشتركان مع يوسف شاهين: “العصفور” عام 1973 و”عودة الابن الضال” في عام 1975.
ويوسف شاهين كان المخرج العربي الوحيد تقريبًا الذي تناول النضال الجزائري في عام 1958 بفيلمه الشهير “جميلة”.
تجربة غزيرة فعلًا وناجحة بشكل عام وتستحق الاهتمام والمتابعة.
ما رأيكم في أن نشاهد الآن وقائع السنين الملتهبة من وجهة نظر مخرج عاش هذه السنوات؟ مخرج شارك في كتابة السيناريو وفي التصوير وفي تقديم أطفاله الثلاثة الممثلين، ولم يكتفي بذلك بل قام أيضًا بدور المجذوب ميلود.
لنشاهده الآن وآمل أن يثير اهتمامكم.
شكرًا لكم.
عرض الفيلم
مرحباً بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…
أهمية فيلم الليلة في تصوري تنبع من أنه يستعرض بأبعاد ملحمية كبيرة قصة فردية يجسد من خلالها إحساسًا رهيبًا بمعاناة وكفاح شعب كامل.
في الأفلام التاريخية غير المتقنة عادة ما يختار المخرج وكاتب السيناريو حكايات وقصص فرعية كثيرة تزحم السيناريو وتكاد أن تقضي على الحبكة الرئيسية مستعرضًا أحداثًا كثيرة وجموعًا غفيرة دون وجهة نظر، وهذا ما يسمونه أحيانًا بالأفلام “الضخمة.”
يتميز فيلم الليلة ببساطة تكوينه الدرامي، متابعة لقصة فرد غذّاها، في رؤية بانورامية كبرى كلوحة فريسك جدارية ضخمة، بتفاصيل صغيرة من حيوات الآخرين في خمسة أجزاء متصلة. وهكذا حقق الفيلم ربطًا ذكيًا بين معاناة فرد ومعاناة شعب، وكأنه يقول إنه في سبيل استقلالها نالت الجزائر نصيبها من الشقاء. لهذا يجسد لنا الفيلم إحساسًا بحقائق منها أنه خلال ثمان سنوات فقط من عمر الكفاح المسلح بين 1954 و 1962 وصل عدد المعتقلين في الجزائر إلى مليونين واللاجئين إلى مليون والمقاتلين إلى مليون وعدد الشهداء إلى مليون ونصف مليون شهيد (هذا في تعداد لم يتجاوز اثنى عشر مليونًا من السكان).
جسد الفيلم لنا هذا الشعور دون أن يغطي مساحته بمعارك كبرى أو بطولات خارقة.
هناك أهمية أخرى للفيلم تأتي من ذلك اللقاء السعيد الذي حققه حامينا بين توصيل رسالة وتحقيق متعة فنية خاصة.
فالشعور بالتراث اللوني الصحراوي الجزائري موجود طوال الوقت، وتشعر أيضًا بأن حامينا لا يخجل من تراثه ولا يتأفف منه بل يقدمه في رؤية تشكيلية عالية القيمة جسدتها حركة كاميرا متأملة تعتمد على الاستعراض البطيء والدخول والخروج البطيء، وخلقت الإضاءة أحيانًا (فاجعة مع وجه الزوجة الشابة) لوحات فنية موحية، وإيقاع صوتي متميز مع موسيقى لفيليب لارتويس.
هناك كشف كامل للمكان الذي تدور فيه الأحداث في الصحراء أو في المدينة، وهو كشف ينم عن احترام المكان واحترام للعين السينمائية قل وجوده في السينما العربية.
لقد أحتفظ حامينا (الذي ولد في عام 1934) بملف ذكريات طفولته التي عاشها في الصحراء كاملًا، وبشكل خاص يتذكر “واقعية” تقديم الزوجة الصامتة طيلة الفيلم (والتي قامت بدورها الممثلة الممتازة ليلى شنّا) و”تراثية” تقديم شخصية المجذوب ميلود التي قام بتمثيلها، وهي في رأي حامينا إحياء لتقاليد الرواية عند العرب… إنها كالكورس في المسرح اليوناني الذي يعلق على الأحداث وقد يتنبأ بما هو قادم.
بقيت نقطة أخيرة في هذا التعليق :
تكلف الفيلم نحو مليار فرانك فرنسي قديم (وهي أكبر ميزانية لفيلم جزائري) وبعد نجاح الفيلم تلقى حامينا سبعة عروض لإخراج أفلام بعقد قيمته عشرة ملايين دولار بالإضافة إلى نسبة 10% من الأرباح، ولكن حامينا رفض محتجًا “بأنه ليس للبيع!”
ومع ذلك ظهر من الجزائر وفرنسا من قالوا بأن “وقائع سنين الجمر” فيلم هوليودي خالص!
رد حامينا على نقاده قائلًا:
“هذه أراء ديماجوجيه… فهوليوود سينما كبيرة، لقد أنتجت فيلمًا عظيًما أخرجه ناشئ هو جون فورد عن قصة شتاينبك “عناقيد الغضب”.
إن التجديد السينمائي اليوم يأتينا من أميركا، موجات الاحتجاج على مختلف المستويات تأتينا أيضًا من أميركا، أفلام هوليوود ذات الميزانيات الضخمة تمثل 76% من السوق العالمية.
لقد شاهدت في مهرجان كان الفيلم السوفييتي “حاربوا في سبيل وطنهم” (الذي قدمناه في نادي السينما) أليس فيلمًا هوليوديا بميزانيته العملاقة؟
على هؤلاء طرح سؤالًا : ما هي السينما الهوليودية يا ترى؟
إن جوهر المسألة في رأيي هو مقدار التحكم في الوسائل السينمائية أي مقدار إتقان التقنية السينمائية ليس إلّا”.
وهذا هو ما فعله حامينا بالضبط في “وقائع سنين الجمر” وفي فيلمه التالي “عاصفة الرمال” في عام 1982، الذي تناول فيه وضع المرأة والظروف الاجتماعية في البادية الجزائرية، وحتى في أفلامه الطويلة الثلاثة السابقة “رياح الأوراس” في عام 1965، الذي لفت الأنظار وفاز بجائزة العمل السينمائي الأول في مهرجان كان في عام 1966، بالإضافة إلى جائزة السيناريو في مهرجان موسكو عام 1967، وهو فيلم رقيق ومفعم بالإنسانية العميقة، ثم فيلمه “حسن طيرو” في عام 1967، أو في “ديسمبر” فيلمه الطويل الثالث في عام 1972.
ظل حامينا مخرجًا سينمائيًا متقنًا للحرفة محققًا للقاء السعيد بين الرسالة وبين الفن.

إلى أن نلتقي إن شاء الله على خير مساء الاثنين المقبل أرجو لكم وقتًا ممتعًا ومفيدًا.
شكرًا لكم وإلى اللقاء وتصبحون على خير.
بقلم فاروق عبد العزيز

Comments are closed.