ابن واحدة من الأمهات

Some Mother’s Son

التاريخ: 26/10/2001

أعزائي المشاهدين…مساء الخير…

في الأشهر الأولى من عام 1981 وأثناء اعتقاله في سجن ميز في مقاطعة يولستر بأيرلندا الشمالية كتب بوبي ساندز الناشط في حركة الجيش الجمهوري الأيرالندي في يومياته السرية يقول:

“يعتصر الحزن قلبي لأنني أعلم أنني قد حطمت قلب المسكينة أمي”.

بين الحب الفردي والولاء لحب عام تقع منطقة فاصلة. حارقة! فيها إختار بوبي ساندز نوع الحب الذي يجب أن يأتي على رأس أولوياته العاطفية وكذلك فعل نحو 330 رفيقًا له في سجن ميز في عام 1981.

اختار هؤلاء ما اختاروه. ولكن ماذا عن أم بوب؟ وعن أمهات الأبناء الثلاثمائة والثلاثين. فيلم الليلة ليس فيلمًا عن بوبي ساندز ولاعن الأبناء واختياراتهم.

انه فيلم عن اثنتين من هذا الجمع من الأمهات وبالتحديد عن هذا الاختيار الصعب الذي لاينبغي لأم أن تضطر الى القيام به أبدًا.

فاصل

فيلم الليلة الأيرلندي “ابن واحدة من الأمهات” الذي أخرجه تيرى جورج عام 1993 قبيل التوصل إلى اتفاق وقف اطلاق النار بين حركة الشين فين وذراعها العسكرية (الجيش الجمهوري الأيرلندي) وبين الحكومة البريطانية يمثل ذروة من ذري التعاون الإبداعي بين المخرجين الكاتبين تيري جورج وجيم شيريدان بعد نجاحهما الكبير في فيلم “باسم الأب” في العام نفسه، وهو الذي رشح لست جوائز أوسكار ثلاث منها في التمثيل وثلاث أخرى في الإخراج والكتابة والمونتاج. وهو مبني على قصة حقيقية مليئة بلحظات رائعة على الشاشة خاصة مايتصل منها بالعلاقة بين الأب والإبن. وقد وصف أحد النقاد الفيلم بأنه “صناعة لأسطورة أيرلندية معاصرة”.

فيديو صوت وصورة “باسم الأب”

“ابن واحدة من الامهات” يفتح ملف السينما الأيرلندية وغير الأيرلندية التي تناولت القضية الأيرلندية الشمالية. وهو ملف سأتطرق فقط إلى بعض ملامح وعناوين منه في هذه الحلقة نظرًا لحدود الوقت الضيق، وإن كانت ستتاح لنا فرصة لفتحه ربما أكثر من مرة عندما نعرض أفلامًا مختارة أخرى من الملف الأيرلندي في المستقبل إن شاء الله.

فاصل

فيلم الليلة مبني كعدد من الأفلام الخاصة بهذا الملف على أحداث حقيقية دارت وقائعها الأولي بين شهري مارس وأغسطس من عام 1981 ثم توابعها في الأشهر القليلة التالية.

وهذا معناه أننا نعرف مقدمًا ماهي الأحداث. وهنا يبرز التحدي الأول لمن يتناول فيلمًا مبنيًا على أحداث تاريخية قديمة أو معاصرة؛ وهو كيف سيقدم الأحداث؟ كيف سيرويها؟ ولأي هدف؟ وكيف؟ وكما ذكرت مرارًا فإن الفن هو القدرة على توظيف أدوات الإبداع في قالب من السحر الذي يفصل بين ماهو فن وما ليس بفن ليحقق الهدف.

والهدف هنا هو الرسالة. وككثير من الأفلام التى تناولت القضية الأيرلندية فإن الرسالة التى تغلف الفيلم منذ بدايته وحتى نهايته هي رسالة يرى الداعون إليها أنها الحق الأيرلندي الشمالي الكاثوليكي في مواجهة الباطل البريطاني البروتستانتى. وهى رسالة قاتل في سبيلها أحد أشهر الأبطال الأيرلنديين – مايكل كولينز كما شاهدنا في فيلم نيل جوردان في عام 1996.

فيديو صوت وصورة من “مايكل كولينز”

إذن نحن أمام فيلم رسالة يتوسّل لتوصيل الرسالة بأسباب فنية وجدها الكاتبان جورج وشيريدان مخرجًا مناسبًا لمواجهة التحدي. أحداث إضراب الستة والستين يومًا معروفة. ولكن المرأتين (الأم كاثلين والأم آنى) غير معروفتين. فلم لاتكون هاتان الشخصيتان الحاليتان دليلنا عبر الأحداث الحقيقية المعروفة؟

بل لم لا تجسد الشخصيتان الأمهات الثلاثمائة والثلاثين سجينًا سياسيًا في حكاية إنسانية تقوى الرسالة السياسية، وتخلق بناءً دراميًا قويًا متفاعلًا مع الأحداث المعروفة؟

إختيار ممتاز! ليكن فيلمًا عن إمرأتين وجدتا نفسيهما في علاقة مباشرة إلى أقصى الحدود مع أحداث عام 1981 بالغة الاضطراب.

هكذا أتصور…استطاع الكاتبان الرد عمليًا على مقولة شائعة مفادها أن الفن والسياسة لايصلحان للزواج. وهذه مقولة صحيحة تمامًا بتطبيقها على غالبية الأفلام التى تدعى أنها أفلام سياسية أو ذات رسالة إذ يعتبر صانعوها أن الرسالة السياسية تبرر إنعدام وجود الفن! وهذا زعم باطل لأن مكان الرسالة السياسية الخالية من الفن هو قاعة محاضرات أو اجتماع سياسي…لكن الفن؟ تلك مسألة أخرى.

“ابن واحدة من الأمهات” يقف عند الحد الفاصل بين فيلم الرسالة السياسية وبين جرعة الفن القوية فينتقل بين حين وآخر من هذه الى تلك وأعتقد أن كاتبيه ينجحان في معظم الحالات في الابتعاد عن ترداد واستغلال المعلومات السياسية المضمّنة في رسالة الفيلم لذاتها. بل تم تغطيتها على نحو مرض لزيادة وعينا دون مباشرة بالأثر الانساني لهذه المعلومات السياسية على الحياة اليومية لشخصتين نموذجيتين يمكن أن نلتقيهما في أي مكان.

وكما بدأت الشخصيتان الأنثويتان علاقتهما في فيلم الليلة من موقعين مختلفين تمامًا بدأ كذلك الرجلان في فيلم ألان باكيولا في عام 1997 “في قبضة الشيطان” علاقتهما.

فيديو صوت وصورة ” في قبضة الشيطان”.

يتميز إخراج فيلم الليلة بقدر كبير من الحيوية. قدر منه مستمد في تقديري من كون المخرج تيري جورج هو كاتب مشارك في السيناريو؛ مؤمن بقضيته، مطلع على تفاصيلها. وقد أضغى مصمم الإنتاج والتصوير في مواقع الأحداث لوقائع الاضراب في العنبر HI واقعية وصدقًا في الاحساس العام للفيلم.

وقتًا مفيدًا أرجوه لكم أعزائي المشاهدين مع “ابن واحدة من الأمهات”، ولنا لقاء بعد الفيلم إن شاء الله…شكرا لكم.

الفيلم

أهلا ومرحبًا بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…

من أقوي نقاط التميز في فيلم الليلة هو ذلك الأداء الهاديء الذي يحكم تطورات القصة في عرض موضوع انفجاري شديد كالموضوع الأيرلندي. ثم من قال إن الأمهات مهما كن مسيسات لا يأبهن لحياة أولادهن. كان اختيارهن قاسيًا بين احترام معتقدات أبنائهن حتى وإن أفضى ذلك إلى الموت وبين حب الأم الخالد لحياة أولادها. هناك سيطرة وحضور مؤثر للممثلتين الرائعتين الأيرلنديتين؛ هيلين ميرين (الأم كاثلين) وفايونيولا فلاناجان (الأم آني).  كلتاهما بدأت علاقتهما من نقطتين متباعدتين تمامًا قبل أن تصهر المعاناة المشتركة جليد الاختلاف بينهما.

اشتهرت الأولى بأدواها القوية ونراها هنا في دور أم مضطربة حول اختياراتها في أتون واقع سياسي حاولت أن تتجنب آثارة بذكائها ورقيها كأنها طبقة بذاتها، وأن تعيش حياتها في هدوء مع عائلتها. ولكن هذا واقع يقتحم حياتها من أضعف المواقع: الإبن الذي أرغمها على القيام برحلة عاطفية شاقة لتصل إلى وضع يمكنّها من القيام بالاختيار الذي رأته صحيحًا. أما الثانية فإن قدرتها على الإلتزام والسيطرة تبرز بوضوح على وجهها طوال الوقت.

ألف ممثلة كان يمكنها أن تقتل هذا كله بالمبالغات الانفعالية. وكما ذكرت في حلقة الأسبوع الماضي عن مورجان فريمان فإن قوة الممثل ليست في إطلاق الانفعالات، ولكن في السيطرة عليها ليستخدم منها الضروري كلما دعت الحاجة.

وفي موضوع مشحون بكافة أنواع الانفعالات كفيلم الليلة كان من السهل على ميرين والممثلة فلاناجان أن تبالغا، ولكنهما ممثلتان محترفتان والاحتراف يعني كل شىء في مهنة التمثيل كما في مهن أخري.

نقطة أخيرة تتعلق بالسيناريو الذي يمثل في جانب كبير منه موطن الضعف الأساسي وربما الوحيد في الفيلم. رسم السيناريو خطًا فاصلًا بين الأشرار البريطانيين بلونهم الأسود والأخيار الأيرلنديين بلونهم الأبيض متجاهلًا تمامًا المناطق الرمادية في واقع الحياة. لأنه مهما كانت أهمية الرسالة فإنه يلزم، بمثل هذه الأهمية أيضًا، إدراك حقيقة أن التأثير الدرامي التحريضي خاصة في الأفلام السياسية يتحقق على نحو بالغ التأثير فقط حين يرسم الكاتب تناقضات المعسكر الواحد بدرجاتها اللونية المختلفة ويترك الحكم للمشاهد في النهاية لاختيار الجانب الذي ستنحاز اليه عواطفه وأفكاره.

كم أتمنى، مع استثناءات قليلة، لو يظهر عندنا هذا النوع من الفن السياسي.

على أيه حال هناك أفلام سياسية ممتازة تحقق هذه المعادلة بنجاح نراها على هذه الشاشة في المستقبل ان شاء الله.

بهذا أصـل معكم أعزائي المشاهـدين إلى ختام حلقة هـذا المساء من “عيون السينما “.

إلى أن نلتقي مساء الجمعة المقبل على خير إن شاء الله أرجو لكم جميعًا أوقاتًا طيبة ومفيدة وممتعة.

شكرًا لكم وتصبحون على خير.

Comments are closed.