خلاص شوشانك (1994)

The Shawshank Redemption

حلقة 19/10/2001
الجزء الثاني

أعزائي المشاهدين مساء الخير…
في مطلع فيلم “خلاص شوشانك” (الذي شاهدنا منه الجزء الأول في حلقة الأسبوع الماضي) تقول الأغنية التي أدتها فرقة “بقع الحبر”، والتي أدخلتنا إلى جو الأربعينيات من القرن الماضي منذ اللقطة الأولى، تقول كلماتها:
“إذا لم أكن أهتم, فما هو أكثر من الكلمات يمكنه أن يعبّر عن حالي…
إذا لم أكن أهتم, هل سأشعر بما أحس به الآن…
إذا لم يكن هذا هو الحب, فلم أرتعش إذن،
بما يجعل رأسي يدور ويدور،
بينما يجمد قلبي في مكانه!”
أعتقد أن الأغنية لم تكن فحسب مدخلًا صوتيًا لإدخال المشاهد إلى الحقبة الزمنية للأحداث.
أعتقد أنها كانت أساسًا تعليقًا عاطفيًا علي الحالة الشعورية التي كان يعيشها بطل قصة “خلاص شوشانك”؛ آندي…آندي ديوفرين تجاه المرأة التي أحبها فيما يبدو بصدق، ولكنها خانته مع لاعب الجولف، واتهم بقتلهما ونال جزاء ذلك حكمًا مزدوجًا بالسجن مدى الحياة في شوشانك.
وإذا كان آندي هو الشخصية الرئيسة المحركة للأحداث في فيلم شوشانك، إلّا أن هناك شخصية أخرى تفوق آندي أهمية هي بمثابة النافذة التي دخلنا منها إلى عالم آندي؛ الضمير المستتر في شخصيات وأحداث شوشانك، إنه ريد (الممثل مورجان فريمان).
فاصل
يذكرني فن مورجان فريمان في مجموع أفلامه بفن الممثل الحقيقي كما شرحه رائد فن التمثيل الحديث كونستانتين ستانسلافسكي بقوله “إن فن الممثل يتلخّص في التحكم في الانفعال وليس في إطلاقه”، السيطرة على الحركة وليس إطلاقها، على عكس ما هو شائع لدى السواد الأعظم من ممثلي مناطق كثيرة منها الشرق الأوسط وغرب آسيا.
التمثيل الجيد هو فن التحكم في توجيه الإشارات والأوامر إلى العضلات المختارة في الوجه والأطراف والجسد كله لتقديم التعبير المطلوب عن الانفعال المطلوب، فقد يكون من المهم أحيانًا ألا ينطق الممثل في الوقت الذي تحدثنا به ملامحه بما يفوق ما يمكن أن تنطق به الكلمات.
هذا هو فريمان, الذي هو ببساطة ممثل عظيم, في رأي ناقد مجلة “تايم” الأمريكية ريتشارد شيكل. فلم يعزف مطلقًا على الوتر النشاز في أي من أفلامه بفضل معين الصدق الذي لا ينفذ داخله، بفضل هذا المزيج السحري من الموهبة وسلطة الحضور الطاغية على الشاشة”.
في دور ريد يتناول فريمان الشخصية من خلال إحساسه الذاتي بها: رجل تم تدجينه تمامًا فتأقلم كلية مع حياة السجن، كان قد أمضى ثلاثين عامًا من حياته التي تبددت حبيس الجدران، فماذا يمكنه أن يفعل في العالم الخارجي بعد ذلك؟
يعالج فريمان الشخصية بإشارات إلى الخسارة والندم والمرارة ولكن دون تأكيد لهذه الإشارات، وهنا تبرز حرفة الممثل في قدرته على استخدام أدواته التمثيلية الواعية في الوصول إلى مستوى عال من الشفافية مع الشخصية التي يلعبها بحيث تتكشف لنا مختلف جوانبها من خلال أدائه تدريجيًا مع تقدم الأحداث.
هناك توازن آخر أخاذ يقيمه فريمان وهو يروي لنا الأحداث: فهو يزودنا بالمعلومات الضرورية ولكن دون تكثيف أو تصعيد للتعليق على هذه المعلومات.
وهكذا وبفضل هذا الأسلوب، خاصة في العرض الذي يبدو هادئًا وربما غير مبال بالأحداث، أمكننا من خلال صوت فريمان الموهوب أن نتسلل إلى ما بداخل آندي “لنرى” قدرته علي التعايش مع الظروف القاسية دون أي تعليق أخلاقي من فريمان.
لاحظوا “نرى” لا أن “يخبرنا” لأن السيناريو الجيد هو في النهاية عرض مرئي للأحداث. وبعبارة أخرى هو كشف عن الشخصية من خلال الأحداث وليس بأي تعليق إخباري أو أخلاقي يرد على لسان راوية أو علي لسان أية شخصية أخرى.
وكان فريمان في شوشانك مثالًا ممتازًا على ضرورة اختيار الممثل المناسب بغض النظر عن النمط، ففي قصة ستيفن كنج الأصلية كانت شخصية ريد رجلًا أيرلنديًا أبيض ذا شعر أحمر! ولكن المخرج دارابونت في سعيه للحصول على فريمان بأي ثمن كما أعتقد قام بتغيير الشخصية لتلائم هذا الممثل الممتاز الذي حصل بأدائه عنها على ثالث ترشيح لأوسكار أحسن ممثل في عام 1994 ولكن التصويت ذهب إلى ممثل ممتاز آخر هو توم هانكس عن دوره الرائع في “فورست جامب”.
وكما فعل دارابونت من تغيير ملامح الشخصية لتلائم فريمان فعل كلينت إيستوود في فيلمه الذي لقب في عام 1992 بفيلم “ويسترن لكل العصور”…حين قام بتغيير كامل للشخصية الأصلية لكي تلائم مورجان فريمان أو شخصية نيد لوجان في فيلم “بلا عفو” Unforgiven. قد لا نتخيل فريمان في دور ويسترن, ولكنه هنا ينجح في إقامة توازن خفي بين ماضيه كصياد للمجرمين وبين علاقته بصديقه القديم كلينت إيستوود.

Unforgiven Video # 1

تساءلت الناقدة الأمريكية الشهيرة بولين كيل ذات مرة قائلة: “هل مورجان فريمان هو أعظم ممثل أمريكي؟”
وبمراجعة أدواره بين شخصية بالغة الشر كرجل فاسد ذي عين صلبية جامدة في”معلم الشوارع” 1987، وبين دور شخصية بالغة الرقة والظرف كسائق أمي لسيدة ثرية في “سائق الآنسة ديزي” الذي رشح عنه لأول أوسكاراته يمكننا أن نفهم أن السؤال مشروع فعلًا.
فهو ممثل ضد النمط أو القالب على طول الخط. في عام 1986 لعب دور الناظر جو كلارك العميد المفرط في الثقة بقدراته، وفي نفس العام لعب دور حفار القبور الأمي جون رولينز الذي يتحول إلى رقيب أول ملهم لزملائه السود الأبطال المنسيين بين عنصرية واحتقار القوات الجنوبية وعدم ثقة القوات الشمالية…جنود الفيلق 54 خلال الحرب الأهلية الأمريكية في فيلم إدوارد زويك الممتاز “المجد”.

Glory Video # 2
بكل السلطة والحضور الذين يتمتع بهما فريمان كان من السهل عليه أن يقوم بدور يجمع بين القوة والثقة: “عظيم”… المغربي الذي يتضامن مع روبن هود ضد شريف نوتنجهام الشرير لكي يرد له جميل إنقاذ حياته. هنا يبدو فريمان كما لو كان يلعب دوره بلا جهد، حضور ساحر وبجمل حوار قليلة نسبيًا، ولهذا يظل طوال الفيلم محور اهتمام المشاهد. وفي الواقع لقد بدا فريمان كما لو كان هو الممثل الوحيد في فيلم كيفن رينولدز “روبن هود” 1991 الذي كانت حركاته وسكناته تعني شيئًا على الإطلاق!

Robin Hood Video # 3
عمل فريمان في معظم الأنواع السينمائية…ويسترن…حربي…أكشن بنجاح عظيم كممثل بغض النظر عن مستوى العناصر الفنية الأخرى في الفيلم.
في فيلم “سبع” لديفد فينشر 1995 يلعب فريمان دور خبير الأدلة الجنائية المحقق وليام سومرست، الذي شاهد كل صنوف البشاعة التي تعرضها عليه مهنته, وصار لا مباليًا إلى حد لا يفاجئه شيء بعد أن شاهد كل شيء، صار تعبًا من العالم، ولكنه جمع مع ذلك قوة الإحساس بالأمل خلف كل هذا القبح. كان بإمكانه أن يحدث فارقًا في بحثه عن القاتل السيكوباتي الذي يسمي نفسه جون دو في فيلم “سبع”، إشارة إلى الخطايا السبع الماحقات الواردة في كتابات العصور الوسطى الأوروبية؛ الكبرياء والشهوة والشراهة والطمع والغضب والحسد والكسل! سبع خطايا وسبعة طرق للموت.
أداء فريمان في “سبع” ينال عشرة على عشرة!

Seven Video # 4

يعود فريمان في عام 1997 في فيلم جاري فليدر “قبّل الفتيات” ليلعب دور خبير الأدلة الجنائية مضافًا إليه عالم النفس الدكتور ألكس كروس. مرة أخرى بحضوره السلطوي على الشاشة يقود انفعالاتنا في سهولة فطرية، سهل ممتنع تشعر بأصالته رغم أن السيناريو ليس رائعًا، ويذكرني بدوره في فيلم غير ناجح هو “رد فعل تسلسلي” 1996، فهو على حد قول الناقد روجر إيبرت: “لم يغرق مع الفيلم!”

Kiss the Girls Video # 5

يكمن سحر أداء فريمان في هدوئه فهو لا يتحدث إلّا عندما يضيف الكلام شيئًا إلى التعبير الجسدي، وهذه مادة ثرية للتحكم والسيطرة على الانفعالات لا يملكها إلّا أعظم الممثلين!
فاصل

»خلاص شوشانك« كان الفيلم السينمائي الأول للمخرج الكاتب فرانك دارابونت. كان يبدو متخصصًا في أفلام الرعب من الدرجة الثانية!
فقد كتب “كابوس شارع إلم” (الثالث) في عام 1987، و”الذبابة” (الثاني) في عام 1989، ثم “فرانكنشتاين وفقًا لماري شيللي” في عام 1994، كما أن في رصيده فيلم تلفزيوني واحد في عام 1990 هو “مدفون حيًا”.
ولهذا كانت رواية ستيفن كنج، ملك قصص الرعب التي بني عليها فيلم الليلة “ريتا هيوارث وخلاص شوشانك” بمثابة مفاجأة كاملة له.
فهي ليست رواية رعب على الإطلاق!
هي دراما سجن ولكنها في الأساس دراسة لشخصية.
وكان تحديه ككاتب ومخرج هو أن يجعلنا نرى ونشعر بالإيقاع المجنون لحياة السجن دون أن يخضع فيلمه لها.
وكان تحديه هو كيف سيتناول موضوعًا كالخلاص الروحي النابع من الأمل دون أن يتداخل ذلك مع مفهوم الانتقام الذي كان أسهل طرق التناول الدرامي في موضوع كموضوع فيلم شوشانك.
وكان تحديه هو كيف سيتجنب ما تقع فيه أفلام دراما السجن من معالجات سهلة وسطحية, وكيف سيقدم شخصية تحافظ على إنسانيتها دون ادعاء, بينما يخسر الآخرون إنسانيتهم! بل كيف سيبرز مخزون القوة الاحتياطي الكبير في شخصية آندي الذي يبدو على السطح مرهف الجسد مرفّه السلوك وكيف سيحصل آندي على خلاصه عندما يعترف لصديقه ريد بخطاياه الحقيقية؟
وأخيرًا كيف سيقدم هذا كله بفن حقيقي في كافة فروع الأداء الفني للفيلم.
أجاب “شوشانك” على هذه التساؤلات وفاز بسبع ترشيحات لجائزة الأوسكار وبإعجاب جماهيري واسع.
ولعله مما لا يدعو إلى الدهشة أن استقى دارابونت مادة فيلمه التالي “الميل الأخضر” في عام 1999 من قصة أخرى لستيفن كنج هي ليست حكاية رعب أيضًا فاز عنها فيلمه بأربعة ترشيحات أوسكار بأسلوب معالجة يشبه تمامًا أسلوبه في “شوشانك”: لا تشغل نفسك بما “يقوله” الموضوع وحسب, ولكن “بكيف” تعبر عنه.
وكان من السهل إبراز تماثلات شكلية وأسلوبية كاملة بين الفيلمين، علاوة على نقاط لقاء في الموضوع أيضًا. فآندي في “شوشانك” يلتقي في أكثر من مقطع مع جون كوفي في “الميل الأخضر”، وهناك أيضًا الشرير، آمر السجن أو الحارس السادي، ثم موضوع الصداقة بين توم هانكس وجون كوفي كما هو الحال بين آندي وريد.
Green Mile Video # 6

لكي نستمتع بمشاهدة الجزء الثاني من “شوشانك”، يبدو أنه من الضروري التذكير ببعض مشاهد من الجزء الأول نستأنف بعدها عرض الجزء الثاني مباشرة.
وقتًا مفيدًا أرجوه لكم أعزائي المشاهدين وألتقيكم بعد الفيلم إن شاء الله.
شكرًا لكم.

فيديو صوت وصورة: مشاهد مختارة من الجزء الأول ثم الجزء الثاني مباشرة.

أهلاً ومرحباً بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين.
مهد الفيلم في جزئه الأول لشخصية آندي بعبارة القاضي غير المتعاطفة: “يذهلني أنك شخصية باردة يا سيد ديوفرين!”
ولكن هذا البرود لم يكن غير واجهة لنبع من القوة على نحو يذكرني بتلك الشخصيات المتفائلة التي ميزت بعض أفضل أفلام هوليود القديمة كروبرت استراود (برت لانكستر) في فيلم “رجل الطيور” في عام 1962.
في ظروف السجن ومع حكم كهذا يتداعى فيه معظم الناس إلى درجة من الحيوانية والانكفاء في التعامل مع الذات، ولكن آندي يثبت أن مخزون القوة لدى بعض البشر يمكنه أن يصنع ما قد يبدو مستحيلًا!
ولم يكن هناك أفضل من تيم روبنز (آندي) للقيام بهذا الدور. فنحن باختصار لا ننشغل طوال الفيلم بما يقوله، ولكن بما يعبّر به عما يقول مستخدمًا كافة أدواته وفي مقدمتها الصمت والإشارات والهدوء الصارخ المتوافق مع أسلوب الفيلم الذي يبلغ حدودًا رائعة من الأناقة والشياكة!
وقد كان قرار المخرج دارابونت اختيار ممثلين موهوبين, بدلًا من مشهورين, قرارًا رفع بإبداع الأداء من مستواه العادي إلى آفاق فنية زاخرة.
عاش “شوشانك” أيضًا بشخصياته الثانوية وحبكاته الفرعية، وفي الواقع أن كل الأدوار الناطقة تساهم في رسم الخلفية وراء آندي وريد.
وفي هذا الإطار تبرز القصتان الفرعيتان لبروكس أمين المكتبة العجوز الذي رفض الحياة خارج السجن بعد حياة نصف قرن داخله. حكاية فرعية قصد بها تأكيد حالة القبول الكامل بالحياة داخل السجن لدى شخصية رئيسية هي ريد.
وهناك القصة الفرعية الأخرى للشاب تومي الذي كان مشروع آندي وكان بالصدفة، وهذا هو المهم، دليل براءته الذي اغتاله آمر السجن الفاسد فدق بذلك المسمار الأخير في نعش براءة آندي، وزاد الدنيا من حوله ظلامًا على ظلام.
هذا تكثيف درامي عال للحظة اليأس حتى تبرز قوة الأمل بعدها من داخل قلب آندي.
وقد أظهرت هذه الشخصيات جميعها الرئيسية منها والثانوية نقاط القوة والضعف في بعضها البعض. وهذه إحدى ميزات السيناريو الممتاز الذي يضيء هنا ويكثّف هناك دون أن يشتت انتباهنا عن التركيز على المجرى الرئيسي للأحداث بشخصياتها.
السيناريو الذكي هو ذلك الذي يدعو مشاهديه إلى التفاعل والتفكير والتأمل حتى الاندماج مع أقوى ما في شخصياته.

وهذا دائمًا إنجاز نادر!
بهذا أصل معكم أعزائي المشاهدين إلى ختام حلقة هذا المساء من برنامج “عيون السينما”، إلى أن نلتقي مساء الجمعة المقبل على خير إن شاء الله، أرجو لكم جميعًا أوقاتًا طيبة ومفيدة وممتعة.
شكراً لكم…وتصبحون على خير…

Comments are closed.